الابتلاء، كلمة بحروفٍ قليلة، ولكنها تختصر المزيد من الأوجاع والآلام، والتي تتكاثر وتتوحش لتأتي من كل الاتجاهات فتلبثُ أحيانا كثيرة أياما وأيام.
وإذا ترجمتها لكلمات لملأتَ بهم أكثر من كتاب، وإن حَاوَلتَ وصفها للناس فلن يَجنِي الوصف لهم أدنى استيعاب، فهي حالة تُعبر عن حُطام الأوجاع وعِظَمِ الآلام وتعلن عن سيطرة الأحزان، فهي حالة خاصة جدا، لا يشعر بها أحد غير صاحبها مهما بالغ في الوصف أو الاسترسال بدقة بالغة وإحكام.
الابتلاء، كلمة، ما أسهل نُطقها على اللسان، ولكن ما أقسي ما ترسبه من آلام يصرخ منها الجسد وتفيض من شدتها النفس، فتشق صمتها أشدّ انقسام، فتصرخ النفس صرخة المستغيث المضطرب الملهوف، صرخة داخلية تهز أركان الجسد وتزلزله، ولكنها صرخة لا يسمعها إنسان، صرخة شخصٍ قارب وبشدة على الدخول في مرحلة الحزن الدائم و الكآبة والعزلة ثم الانهزام.
والنفس في ذلك مسكينة، فتظلُ واقعة تحت حصار الابتلاء، فتُصارعه أو يُصارعها، ولا تنتهي بينهما تلك الحرب الضروس إلا بانتصار، ولكن قد لا أعلم لمن فيهم قد يُكتب الانتصار، أ للنفس؟ أم للابتلاء؟
فالنفس في ذلك أنواع فإما أن تكون قوية، تهزم الابتلاء وتغلبه وتنتصر عليه مهما زَادَت قوته أو طَالَت مدته أو عَلَت وتيرته أو صَعُب تحمل ألمه أو استحالت نهايته، وإما أن تُسلم النفس له تسليما يسيرا مفضلة عدم الدخول في صراعات، فتفتحُ له قلوعها معلنة اليأس والانهزام.
فكما قلت، النفس أنواع، فهناك نفسٌ يئست، وضعفت، واستسلمت بسلام للابتلاء، ونفسٌ أخرى تشجعت، وقاومت وقاتلت، ورفضت اليأس والاستسلام حتى ولو دخلت نطاق الصراعات المحظورة مع الابتلاء، وحتى وإن وَهَنَت لوهلة بعد قتالٍ وصراعٍ طويل، ولكنها نهضت من جديد واستعادت قوتها ولم تعلن الانهزام.
ومن منِّا لا يعرف نطاق أو مراحل الصراعات الكبرى، بل قل من منا لم يخوضها أو يجربها بذاته، وهي صراعات تخوضها النفس المتمردة على البلاء، صراعات داخلية قد لا يراها الناس، ولا يدري بها حتى أقرب المقربين منهم، صراعات قد تهدد سلام النفس الداخلي، صراعات كُتب علي النفس أن تخوضها منفردة، وحيدة، معذبة، ولكنها مصرة على القتال، وتأبي الانهزام.
والصراعات كثيرة وحدث بلا استشعار لأدنى حرج، فأولهما صراعٌ بين التحمل من ناحية واليأس من ناحية أخرى، وصراع بين الصبر والجزع، وصراع أشد بين الرضا بالأقدار والتسليم لها من ناحية وبين السخط والغضب الشديد من مجريات الأمور والتي تسري عكس الرغبة والإرادة والاختيار، وصراع نفسي شديد ينتج عن طول أمد البلاء فيستفهمُ صاحبه من مُجرِيَ القضاءِ ومُسيِرَ الأقدارِ عن أسباب ما حلّ به من بلاء أو بمعنى أدّق، يسألُ خالقه عن الحكمة الغيبية من البلاء ولماذا يأتي له هو بالذات؟ أو ما الذي اقترفه من ذنب كي ينال هذا العقاب؟ ومتى سيُرفع؟ وما هو الخير المَخفي وراء شر البلاء؟ أليس لكل بلاءٍ، ظاهرٌ شرُه خيرٌ مخفيٌ عنا، لا يكشفه الله لنا إلا في وقت معلوم هو فقط من يحدده؟ وما جزاء الصبر على البلاء؟ وهل رضينا وتحملنا وصبرنا عليه بالقدر المطلوب أم لا؟ أسئلة كثيرة ودوامات من الصراعات التي نتجت عن البلاء، إلى أن يصل صاحب البلاء لنطاق الصراعات المحظورة وهو أقساهم على الإطلاق وهو الصراع بين الشك واليقين، وما أدراك ما الشك؟ وما هي مخالبه وحيله؟
فخلاصة الصراعات الدائرة هو الصراع بين الإيمان بكل مسبباته وأشكاله ونواتجه ويقينه من ناحية وبين الابتلاء بكل أنواعه وآلامه وقوته وطول أمده من ناحية أخرى.
وإلى لقاء آخر في مقال آخر عن الحقيقة وراء الابتلاء.